Saturday 22 May 2010

الفضاء الخاص و العام... تحولات في المجتمع الموريتاني

اعل الشيخ أحمد الطلبة

كثيرة هي التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تمثل منعرجات منزلقة و تهدد بنية المجتمع الموريتاني التقليدي. من بين تلك التحديات ظاهرة "المقهى" التي تبدوا بسيطة وعادية، لكنها تساهم، بشكل أو بآخر، في بناء وعي جديد و القضاء على فضاءات خاصة أخرى كالمنزل والأسرة، بل إنها فضاء جديد للتسوق والتسول و الترفيه....

لم يعرف مجتمعنا المقهى في ثقافته الشعبية، والتي هي ثقافة فضاء مغلق كالمنزل. لكن المقهى كتحول اجتماعي جديدة بدأ يفرض نفسه كظاهرة اجتماعية جديدة تسمح بحرية أكبر و مكان أكثر تلاؤما مع الجو العام للشباب وحرية التعبير والتفكير. منذ خمس سنوات لم يكن في نواكشوط أي فضاء خاص كالمقهى و مقاهي الإنترنت و محلات Playstation ...الخ، إذ كان المجتمع يعتمد على المنزل كمكان وحيد للترفيه و العيش والتعايش....

هذه التحولات قد تكون ايجابية أو سلبية في حد ذاتها، لكنها بالضرورة تفرض ثقافة جديدة على مجتمعنا المعروف بالتعصب و التزمت في وجه كل وارد جديد. إن هذا التعصب ورفض الجديد والتجديد هي خاصية للشعوب الصحراوية المنعزلة و التي تعتبر الانعزال نوعا من حماية الهوية و الثقافة؛ فالإنسان الصحراوي انزوائي بطبعه ويحب الرتابة والملل والروتين....

الدكتور والأستاذ الجامعي محمد ولد جبريل، واحد من رواد المقهى الجديد في نواكشوط يعتبر أن المقهى "مكان يجد فيه نفسه وذاته مع أصدقائه أكثر من المنزل،" ثم يضيف قائلا: " المقهى لازال مكانا لا يحبه الكثير من الناس و يعتبرونه فقط للمشردين والذين يحبون محاكاة المجتمعات الأخرى." ثم يضيف صديقه الجالس معه عبد الله ولد خطري "الكثير من الموريتانيين ينظر إلي المقهى بهذه النظرة الازدرائية لأنهم لم يخرجوا عن موريتانيا ولم يعرفوا ثقافة الفضاءات العامة. فمثلا، نحن كنا ندرس في الخارج وعشنا لسنوات خارج موريتانيا حيث المقهى هو المكان الأفضل للقاء مع الأصدقاء والتفرج على مباريات كرة القدم."

إذن فالمقهى يتعدى مجرد كونه فضاء للترفيه و التلاقي في محاولة أن يكون، بالنسبة للكثير من النخبة المثقفة، بديلا عن أجواء العائلة والأسرة التي تتحكم فيها قواعد الضيافة و العادات والتقاليد....

تجدر الإشارة إلي أن ثقافة المقهى ليست على قدر من التمظهر لمنافسة الأسرة، فمازالت أغلبية الشباب و الأصدقاء يلتقون في بيوتهم رافضين، عن وعي أو بدونه، السماح لأنفسهم بالجلوس مع الآخرين و كشف أسرارهم أمامهم و الضحك على طريقتهم التي يريدون. فالقهوة بالنسبة لهم فضاء ضيق يحد من حريتهم الفردية....

"المقهى هو فقط لؤلئك المشردين والذين ليست لديهم أسر أو عائلات" يقول الحسن ولد إسماعيل، ثم يردف "المقهى مكان ضيق والناس تدخن فيه وتتكلم في مكان واحد متسببة في الضوضاء، فالمقهى عندنا ليس مثل المقاهي العامة عند الآخرين حيث الصمت والهدوء والوقار والسكينة تخيم على الفضاءات العامة. لذلك فالمقهى في مجتمعنا هو فقط مكان للعامية."
من الظواهر التي لفتت انتباهي أثناء جمعي لهذه المعلومات هي ظاهرة الباعة المتجولين والمتسولين. رأيت فتاة تبدوا في العقد الثاني من عمرها أنيقة الملابس و بيضاء البشرة وتمسك بيد طفلة لا يتجاوز عمرها الست سنوات تقريبا وهي تنتقل من كل طاولة إلي أخرى تتسول وتطلب الصدقة من الجالسين. البعض من الزبائن بدا وكأنه يعرفها وألفها في هذا الفضاء أما البعض الآخر فينزعج من المنظر....

سألت إبراهيم أحد الجالسين، وقد بدا على وجهه بعض التعجب من الفتاة، عن رأيه في هذه الظاهرة فقال: "أعتقد أن هذا النوع من المتسولين الذين أصبحنا نراهم في كل ركن من نواكشوط هم ضحايا انعدام التكافل الاجتماعي و تفكك الأسر وكثرة الطلاق وعدم مسؤولية الآباء والأمهات على حد سواء." ويسترسل "إن النظام السياسي طبعا يتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية الاقتصادية والاجتماعية. يجب على الحكومة توفير العيش الكريم لجميع المواطنين بدلا من العمل على تفكيك وتهميش المجتمع...."

حاولت جاهدا أن أعرف الأسباب التي جعلت من هذه الفتاة وأختها متسولتان دون أدنى علامة خجل من وضعهما. كان علي أن أدفع مبلغ 500 أوقية مقابل الظفر بجواب....
" لماذا تطلبين الناس أنت وهذه الفتاة الصغيرة ؟ وهل لكما عائلة وأين هي؟ وماذا تفعلين بالمال؟" سألت الفتاة.

بعد السؤال، رأيت بقية أخلاق وشيء من الكرامة تعلوا جبين الفتاة ثم قالت في لهجة حادة: "مادمت أعطيتني المال فسوف أجيب أسئلتك. أنا أعيش مع أسرتي في ظل تلك العمارة التي لازالت قيد الإنشاء. أبي يحرس العمارة وأمي مريضة و تخضع لعلاج مكلف. في أغلب الأحيان لا نجد ما نطبخه لأن أبي يتقاضى 20000 أوقية فقط، لكن البطرون صاحب العمارة لم يدفع لأبي منذ ثلاثة أشهر. لذلك أحضر إلي هنا كل ليلة لتحصيل قوتنا." بعد لحظات من الصمت أضافت الفتاة "أنا سعيدة لأني أساعد أهلي وهم يفرحون بما نحضره لهم."

إن قصة هذه الفتاة هي أنموذج يلخص حجم وخطر التحولات التي يعيشها مجتمعنا على جميع المستويات، فالمجتمع يمر بمرحلة من التآكل و التقهقر و تفكك النظم الاجتماعية و تفكك القبيلة كوحدة متماسكة تحت إكراهات وانزياحات المرحلة....

من الطبيعي أن يكون المقهى ملاذا آمنا لهؤلاء المقهورين و المهمشين، بوصفه فضاء ثابت بذاته ومتجدد بالزبناء والرواد. فالأسرة تعمل على طرد الكثير من أفرادها إلي المقاهي أو مقاهي الانترنت أو إلي الانحراف والعربدة في الشوارع...

الأسرة لم تعد الفضاء الوحيد الذي يستقطب أفراد المجتمع، فهي في صراع صامت مع فضاءات أخرى متعددة ومتجددة و ناجحة في استمالة الشباب والنخبة التي تسعى إلي التغيير....
يرى محمد محمود ولد اعل، متخصص في علم الاجتماع أن " ظاهرة المقهى بالتقابل مع الأسرة هي نتيجة حتمية ومنطقية للتحول الاجتماعي الذي تفرضه المدينة كفضاء ضيق. المجتمع الموريتاني قاوم ردحا من الزمن هذا النوع من الظواهر لاجتماعية مثل المقهى لكنه فشل في السيطرة على نمط العيش البدوي في حيز وفضاء المدينة، مجتمعنا لم يفهم بعد أن المدينة والتمدن لابد لهم من التغيير في اللبس ونمط العيش والسكن و حتى الترفيه..."

إذن، فالتحولات التي يمر بها المجتمع الموريتاني قد لا يتوقف عندها الكثير منا وقد تمثل لآخرين مجرد ظواهر عادية. لابد من محاولة التفكير في طبيعة الصراع القائم بين الهوية الثقافية التقليدية والقيم الحديثة، إنه صراع فضاءات تختزل المكان والزمان والضرورة الملحة لتغيير المواقع الاجتماعية والثقافية لشعب يعتقد أن الهوية والثقافة من الثوابت التي لا تتحول....

أرجوا أن يكون هذا المقال تنبيها إلي أن الهوية والثقافة والتقاليد والانتماء والوطن والفضاء والمجتمع أشياء أو كائنات حية تتطور وتموت وتندثر وتمرض وتشفى و تتأثر بالإهمال واللامبالاة وتنتعش بالعناية والتشجيع والوعي. نحتاج إلي استنطاق المسكوت عنه ومنح الصوت للصمت لنسمع صرخة الذات والمجتمع في مراحل التحول والانتقال...



_ هذا المقال تم نشره في جريدة "الحضارة" يوم 17 مارس، التي هي متوفرة في الأكشاك الآن....
اعل الشيخ احمد الطلبة، رئيس التحرير

No comments:

Post a Comment