Saturday 22 May 2010

هجرة عقولنا ... من موريتانيا إلي أين ؟؟

بقلم، اعل الشيخ أحمد الطلبة

لن استفيض في محاولة التأسيس لظاهرة هجرة الأدمغة بقدر ما سأكتفي بمحاولة تسليط الضوء على تنامي هذه الظاهرة في سياق المجتمع الموريتاني الحديث العهد بالانفتاح على عالم جديد بكل مغرياته في مقابل الأمل المفقود و الواقع الأليم الذي يعمل على طرد وتهميش أبنائه إلى حافة المجهول. المجهول الذي يتراوح بين الضياع والغربة و التعايش مع ذات تتصدع كل يوم تحت وطأة الشتات والتشتت من جهة أو محاولة التماهي و التعايش في فضاء بيني لا يمكن إلا أن تغترب فيه الهوية ولو طال الأمد...

نحن شعب لم يسبق له أن عرف ثقافة الهجرة و الرحلة بحثا عن السعادة و الرفاه المزعوم، والذي إن حصل في أحسن الأحوال فهو على حساب أشياء أخرى، نحن شعب لا تستهويه الحضارة وبريقها بل نكتفي دائما باليسير من وميض الحضارة لننير ليل الصحراء ومضارب الخيام البهيم الحالك....

من الملاحظ أنه خلال العقد الأخير ومع انعدام السلم والاستقرار السياسي في بلد يرتبط اسمه بالانقلابات و التقلبات السياسية و الاجتماعية والاقتصادية، أصبحت الهجرة خيار يتبناه الكثير من المثقفين كوسيلة للهروب من نار الواقع المرير الذي مافتئ يزداد مرارة يوما بعد يوم مع كل إشراقه للسحابة السوداء التي تطل على هذه الأرض في كل صباح....

أعرف الكثير من الشباب، من زملائي وأصدقائي ، بل قد أكون واحدا منهم يوما ما إن لم أجد وطني وذاتي في رحلت بحثي في عبثية وجودي على حيز جغرافي وبين طيات صفحات من التاريخ المحنط يطلقون عليه مجازا وطنا و يسمونه "موريتانيا"....

فهل الوطن مجرد أرض أو لغة أو تاريخ أو جغرافيا أو عرق أو لون؟ أم أن الوطن يجوز أن يكون خارج الذات الحالمة التائقة إلي الحرية و الكرامة في أي مكان؟ هل يجوز أن نبحث عن أوطاننا خارج أوطاننا؟ هل يمكن أن نسامح أبناءنا الذين يهجرون البلاد و يغادرون موريتانيا، ولكن إلي أين؟

بلغة الأرقام، التي يعتبرها البعض أبلغ من التجريد، يقولون بأن مجموع المهاجرين الموريتانيين في الخارج يتجاوز قليلا 000 00 1، يتوزعون على أغلبية في إفريقيا جنوب الصحراء و أقلية في الخليج و أقلية أقلية من شتات يكاد لا يحصى في دول العالم الأول....

دعوني أعلق باختصار على هذا التقسيم المنطقي لهجرة شعب لا يتجاوز سكانه أصغر المدن في بعض الدول المجاورة. إن الأغلبية التي تهاجر إلي جنوب الجنوب، أي إلي إفريقيا، لا يبحثون سوى عن رفاه متواضع لا يتجاوز دارا في منطقة من صحراء موريتانيا والزواج من ابنة عم تجهل العالم من حولها. إنهم ثلة من الذين لا يحملون أحلاما و لا يحملون شهادات و لا رؤية للعالم، فالهجرة دون رؤية للعالم ووعي بأهمية الانتقال بكل إكراها ته تستحيل إلي ذهاب وإياب دون الشعور بتغيير ثقافي....

أما الأقلية المتعلمة، بمعيار الموريتانيين، يذهبون إلي دول الخليج متخذين منها قبلة للعمل و السفر عبر الزمن الحقيقي لتحول الحضارة من صحراء إلي مدن شاهقة و شعب يشعر بغربة في وطنه. أغلبية الموريتانيين المهاجرين إلي الخليج لا يعدون واحد من اثنين: إما أمام لمسجد يجتر خطب من سجع الصحراء دون التفكير والفهم أو أستاذا للغة العربية في معهد أو جامعة لشعب لا يعرف من العروبة إلي أنه كان يوما يعيش في مكان يسمى "جزيرة العرب."

أما الصنف الثالث من المهاجرين الموريتانيين والذي لا يمثل إلا 0.5 من مجموع الهاربين أو الباحثين عن وطن بديل، قد ينبعث يوما من رماد طموحات لا تولد إلا لتموت من جديد، هذه الثلة هي واعية بأبعاد الغربة والاغتراب من أجل تحسين الظروف العلمية والاجتماعية في سبيل تحقيق الأسطورة الشخصية في وطن بديل قد يسمح ببناء عوالم تحمل بعض أوصاف الوطن الأم، الذي تنطمس وتندرس معالمه مع كل انتقال منه. من المفارقة أن هذه النسبة من المهاجرين الموريتانيين في الخارج هي النسبة الحقيقة للمثقفين في داخل موريتانيا. فالمثقف الموريتاني يضيع بين طموح داخلية الخارج وواقع خارجية الداخل.

اعرفه زميلا طموحا مؤهلا ومثقفا بكل معنى الكلمة، كنا طلبة في الجامعة و نخصص بعضا من وقتنا كل ما أرخى الليل سدوله للحديث عن طموحات ورسم آفاق لمستقبل تملؤه السعادة و العمل و المساهمة في تغيير الوطن والنهوض به، كنا نتشا طر و نتهامس، بل وأحيانا ترتفع ضحكاتنا في سكون الليل عندما نشعر بالغبطة و الشعور بمستقبل قبل أوانه....
مرت الأيام وتخرجنا من الجامعة ومرت الليالي وصديقي يبحث عن أمله الضائع وكذلك كنت أشعر بثقل تقهقر و تبخر الأحلام مع كل غياب شمس، أصبح الحوار بيننا في سهراتنا القليلة تدور حول الشعور بالضياع و انهيار الحلم و سنوات الضياع التي نندم على ضياعها في دهاليز جامعة تخرج على شوارع التجول والبطالة و الوجع المتجذر في نفوسنا من الحسرة على حاضر لا ينبئ سوى عن مستقبل عقيم ....

أخيرا قرر صديقي الهجرة بعيدا عن الوطن الذي أصبح بالنسبة له لا يعدوا كونه إحالة على فترة عمر ارتبطت بألم و ضياع لازال شبحه كابوس يقض مضجع آلاف آخرين في طريقهم للهجرة
ومغادرة الوطن ولو كان إلي جحيم غربة مرة لكنها بالتأكيد أحلى من تفاهة و أضغاث أحلام لا تكبر إلى في وطن ينتمي إلي اللامكان. صديقي هو صورة أجد فيها ذاتي و هي تجسيد لأحلام النخبة الضائعة و الممزقة بين الانتماء لوطن لا يمنح الأمل و هوية متصدعة قد تكون مصدرا لألم....
أخاف على نفسي من بريق يلوح في آخر النفق المظلم، وميض يغري ويعد بلذة وطيب عيش خارج الوطن. كثير من المهاجرين يعلل بقاءه أو سعيه إلي الغربة بأنه يجد حريته و يشعر بفضاء يسمح له بوجود ذاته، بالتقابل مع الوطن الذي يجسد فضاء ضيقا تتضاءل فيه الأحلام و تموت الحرية خنقا أو اختناقا. إن السبب الوجيه الذي يدفع نخبتنا للهجرة هو عدم قدرتها على الإحساس بمنطق أو معنى الانتماء لأي شيء....

سبب ضياعنا يعود إلي أننا لم نتعود على قراءة الوطن والانتماء، لا أذكر أن أي أستاذ أو معلم علمني أن أحب وطني أو أن أستعد للتضحية من أجله. لم أتعرف على وطني منذ الصغر ولما كبرت بدأت أبحث عنه في ركام أشياء تناثرت في مكان ما من ذاكرتي، سوى أنني، مثلي ككثير من الآخرين، لم أجد لوطني أي أثر في سهول الجغرافيا ولا في صفحات التاريخ. تاريخ لم يكتب بعد، وإن كتب النزر اليسير منه فهو هوامش على يوميات مبشرين من المستعمرين وجغرافيا معالمها تصحرت أكثر من الصحراء ذاتها....

إن السؤال الذي يبحث عن جواب له هو لماذا يساهم وطن في التخلص و طرد وتهميش أبنائه؟ هل يعقل أن لا يحاول الوطن المحافظة على عقول أبنائه؟ هل إن الوطن يصبح ألذ كلما ابتعدنا عنه، بل إنه قد يكون أقرب رغم بعد المسافة و الزمان....
"الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن"

No comments:

Post a Comment