Saturday 22 May 2010

الغربة ... رحلتي عبر الأماكن المتغيرة

أعل الشيخ أحمدالطلبة،

تعلمت أنالسفر ليس مجرد انتقال من مكان الي آخر، بل إن المكان في حد ذاته قد يبدوا وكأنه اختزال للذكريات والإنزياحات التي يمثلها المكان المغاير للفضاء الأصلي ليمارس غوايته كحيز بديل رغم اختلافه. غمرني هذا الشعور بالضياع بين الذكريات و شرعت ابحث عن مكان يجسد فضائي في بلد غربتي التي عرفتها من سنين. وها انذا أرسم كلماتي لأتقاسم مع قرائي مرارة اللإنتقال والغربة و الحنين الي الوطن رغم حداثة عهدي به و مرارة الغربة والضياع والنسيان والتشتت والرحلة عبر الأماكن المتغيرة...

تتغير الأماكن وتتعدد بحسب الملامح والأوجه التي نقابلها، لكن سرعان ما نعود إلي ذلك المكان الداخلي الذي لا نشعر بالأمان إلا في أحضانه. نعود إليه في سكون الليل وفي وهج النهار، نعود إليه كلما راودنا الشعور بالملل أو ضاقت بنا أماكن الحياة الأخرى، نعود إليه لنشكو و نبوح له بكل الخواطر ونوبات الشعور المتناقضة تناقض الحياة ذاتها. مكان نعيش في كنفه من خلال الممارسات اليومية التي طالما تستوقفنا في خضم عراكها للحظات يتجلى فيها ظلمنا لأنفسنا و كيف يحاول حيفنا الخروج عن حدود المكان الداخلي المسموح له...

لطالما راودني الإحساس بالغربة خارج وداخل المكان ولطالما سافرت عبر عوالم صنعتها من نسج الخيال لأعيش فيها أحلى ذكرياتي مع أهلي و أصدقائي و أحلامي الطفولية ولو للحظات قبل الخلود إلي النوم أو لبرهة أنتهز فيها غياب المراقب على بوابة لحظة الواقع. فمثلا، أثناء الانتقال بين صفحات الكتب أو في انتظار الحافلة أو في محطة القطار، أجدني خارج المكان، أعيش وأمرح وأطلق الضحكات في صمت ومن حولي الأهل والأحباب والأصحاب...

أتأمل خطواتي على حافة الطريق وأستمع إلي نغمات يرددها الرمل والحجارة والإسفلت والرخام و الزفت تنادى تحت أقدامي و تندبني كي أبوح لها بالحوار الصامت الدائر بيني وبين ذاتي. حوار لا حدود له ولا يحده المكان؛ حوار يأخذ هيأة السفر البعيد والعودة السريعة. كلماته وقع مع التنفس و أصواته تتغلغل في الأحشاء لعلها تكون بلسما للجراح العميقة. لأن الجراح العميقة دائما صامتة كما يقول فيكتور هيجو...

حين يأتي الليل يشدني الحنين، يعاودني الشوق الي وطني و أعود في غمرة السكون و أناديه بين الظل والروح و الذكرى. أتفقد ملامح الوجوه والصور التي أحتفظ بها في مخيلتي لكل الأشياء و الناس...

تلك هي الأماكن تبعثرنا في كل الجهات ، ليست لي وجهة وليست لي نجمة في سمائي تهديني إلى حيث الدروب توصلني برا غادرته ، غير أني لم أصل إلى البحر. وكانت هناك صحراء وراءها صحراء ، وأنا أحمل خطاي موهما السراب أني أسير إليه، لا السراب يغادر العين ولا الخطى تعرف طريقا، آخر الوجوه التي غادرتها ، الوجوه التي غادر تني ، اليابسة التي أكلت الطفولة ، البحار التي ستضيع ما بقي من العمر ، لم تصافحني ولم تذرف دمعا لغيابي وها أنا أنشر أيامي على أغصان عارية لشجر الوحدة ، أحفن دمعي حين أتذكر الخلان لأشربه علّ الروح تبتل برائحتهم وها أنا أهجر المدن أو هي التي تهجرني وأعبر من شوق إلى شوق ، من لهفة إلى لهفة.....

وها انأ أتذكر المكان وأتذكر أن " رائحة البن جغرافيا " كما يقول درويش في سرحان الذي يشرب القهوة في الكافتريا فيختلط " الوطن " من هنا من البعيد بمرآة الشعر لذلك لايمكن لي ان أدرك كيف تكون رائحة البن جغرافيا الا وانا خارجه إذ تصبح عندها رائحة البن لا تشير الى رائحتها فحسب بل تحبل برائحة المكان الذي يحضر بصباحاته المشمسة و باشجاره المحتضرة ويباسه وحجارته المتللئة وطرقه المدفونة تحت الرمال و أزقته المغبرة ...

ايضا يمعن من هو خارج " الوطن " بالرائحة فيبدو المكان الذي غادره مرغما " او بارادته " كفردوس مفقود ويتحول الشعور بالنفي من حالته الميتافيزيقية الى شيء محسوس يمكن استنشاقه عبر رائحة الشاي وتتحول حاسة الشم الى مكتنز للحواس جميعها، فانا هنا لاأشم فقط بل وعبر نزوعي الحنيني أسمع اصواتا تختزنها الذاكرة عبر الرائحة ،أرى الوجوه ودمعها ولهفتها وأرى المكان واهله وأشم رائحة الزعتر—المكان الذي اسكن فيه في دار النعيم-- ايضا ورائحة امي التي أقول لها احيانا

" ريحتك مثل ريحة المطر" وتحب الأم المطر، ليس لأنها امرأة من الصحراء، ولكن فقط لان رائحته تشبه رائحتها وأسمع ايضا جهات تناديني وجهات تصرخ في وجهي وأسمع بكائي الذي تركته ذات ليلة بحضن من احببتهم وأنا اغادر وأتذوق الاسى والوحدة والغياب وأتلمس غربتي وأصرخ: لم اخلق من الهواء لأظل معلقا هكذا بين السماء وبين هذا المنفى (وكل غربة منفى).
الذي يواسدني الفراش ويخطف ايامي لم أختره غير انه يظل معي دائما يفلي ايامي من فرح خالطها ذات ليلة مع اصدقاء اليفين وجميلين وأذكرهم طيرا اثر طير. أفتح سيرة الهجر باصابع هي الروح مبتلة بالحنين ايها الخلان يامر روحي اتجرعكم مثل دفلى لاشفى من دم عالق بين الخطى والحنين وحين يدهمني غريب اخر كمثلي بالمكان واهله ويطوف بالقلعة التي نسيت روحي معلقة مكان الفوانيس القديمة التي كانت تضيؤها أصرخ انه وطني..انه وطني..
ولا يسمع الغرباء الذين يجاوروني صرختي ومن هنا يبدو غير جائز ان نقارن بين غربة داخل الوطن وغربة خارجه كما لايمكن ان نقارن بين حزن داخل الوطن وحزن اخر خارجه إذ تبدو المسافة غير قابلة للقياس او المقارنة إذ انهما شيآن لايرتبطان باي وجه للمقارنة كيف نقارن بين الهواء وبين الاسى.

ويمكن لهذه المسافة التي بينهما ان تلتهم العمر كله ونتحسسها كلما فاض الحنين واغرق الروح. في حال الوطن يتدفق الحزن حول اليومي الذي نعيشه. قد يحوله بعضنا اساطير وقد يعصرنا هذا اليومي حتى اخر قطرة من حياتنا ويرمينا جثثا على قارعة الطريق لا احد يأبه بها الا انه يبقى يومي، لكن خارج الوطن يشدني الحزن الى ما لاأعرف او الى ما أعرف لكنني أفتقده وتظل الايام مبللة بالحنين الى شجر لا أراه لكنني أعرفه ويحتل ذاكرتي وتبدو الذاكرة هنا وطن بديل او وطن مواز للوطن الواقعي وهو ابهى بالضرور إذ ان الذاكرة عبر استحضارها للوطن تشذبه وترسمه على هيئة الخيال.

وقد يحدث ان ترتتطم الذاكرة بالواقع فتصحو وبين هذا وذاك نستمر بالفرار الى الامام الى وطن لا نراه ولا نستطيع تكوينه الا عبر كل هذا الحنين ويبدو الفرار الى مكان بديل كمخدر للالم او مسكِن للوجع لان احدا لا يستطيع اجراء جراحة باهظة لجسد بدد ابناءه في الداخل والخارج وبدد العزيمة ووأد الأحلام والآمال وهو يظن انه من شدة العطر يرقص.

يبدو الوطن في احيان كثيرة لا يتطابق مع المكان او ربما هذا يخص المنفي اذ لاوجود للوطن في المخيلة فالمكان هو الذي يتلبسها وهو الذي ينثر رائحته حولها فالمكان ليس ذكرى او ذاكرة انه هو الذي يبني الذاكرة واذا جردنا الذاكرة بما تحمله من وجوه واحداث وانهار واشجار من مكانها لا يبقى شيء من تلك الذاكرة. غير ان المنفي لا يكتفي بهذا الفصل الواعي او غير الواعي بين الوطن والمكان بل يصبح المكان هو الوطن وربما هذا الوطن البديل او الموازي لا يتقاطع مع الوطن او ربما يحتله كله، اذ انه وفي احيان كثيرة يغدو المكان الذي غادرناه هو وطن مشتهى لان المخيلة ترسمه على هيئة الحلم وتغدو الوجوه والاشجار والاحداث المؤملة في ذلك المكان الذي غادرناه هي غاية المنفي.

وجل مايهجس به المنفي هو تلمسنا بما يشبه رؤية نبي لربه على سدة العرش واول ما يتمتم به المنفي هو صب اللعنات على جهات معلومة او مجهولة اقتلعته من " الهنا " لتبعثره على " الهناك " وهي محاولة يائسة لتبراة النفس من ان تقع عليها اللعنة ايضا واعتذار من اخر شجر غادره واخر ضحكة سمعها او اخر نواح. وعبر هذه المحاولة اليائسة لاخراج النفس من دائرة اللعنة تستيقظ اسئلة واهنة لا يسالها المنفي الا لتبرير منفاه وتبرئته : من اجل ماذا اموت بشكل متواصل على سرير اللحظات ؟

كما ان الوطن المتخيل احيانا هو الذي ينفينا وليس الوطن الواقعي إذ ان النزوع من الواقعي الى الحلم هو الذي يبرر لنا الهجرات التي ما ان تبدا فيصعب ان تنتهي. إذ يبدو الخروج الى بديل جاهز ومصنوع هو اسهل الحلول لكنني عندما أصل الى " هنا " تتحول الايام الى ما يشبه السلسلة من رسائل الندم والاعتذار والحنين ولا أجد على الاغلب من أوجهها له وما بين الهنا والهناك تعبرني الاماكن والوجوه:

المكان الذي بلل الخطى
المكان الذي منه بدأ الطريق الذي لا ينتهي
المكان الذي اكلت ترابه يوم كنت صغيرا وحلمت به يوم كبرت
المكان علمني قراءة الوجوه و " البشر والتواريخ والامكنة "
المكان الذي ولدت فيه القصائد الاولى والزعبرات الاولى والحبيبة الاولى، غادرته او خطفه مني الوطن؟! وهنا تبدو المفارقة مذهلة ان يشردني الوطن عن المكان الذي تهدأ فيه روحي.
وقد تتحول دلالة الوطن من الدلالة المكانية الاساسية الى دلالة تاريخية او اسقاطية الا انها لا تحمل ذلك الا بوصفها دلالة مكانيةاساسا وهنا يبدو الافتراق واضحا اذ اني فارقت وطني وهو داخلي الا ان المكان لم يبرحني، لذلك لم يتشكل لدي هذا الشبق الشعري بالمكان الوطن الا لاحقا. واذ يذكر كازنتزاكسKazantzakis في زوربا ان "الوطن هو كذبة كبيرة" او ما شابه هذه العبارة فان المكان هو الحقيقة الثابتة في مخيلة الفرد وحنينه.

والمكان ينمو مع الفرد او من خلال المكان ينمو هذا الفرد وبالتالي فان الامكنة تتغيرايضا وهي معنا فهي تكبر وتهرم وتشيخ وربما تكتسب طبائع اخرى جديدة كأن يصبح المكان عدائيا او نزقا او يصبح مع مرور الايام اكثر الفة وارتباط العلاقات مع الوجوه المتنقلة بالمكان هو امر واضح. وأظل أنتظر العودة الي وطني كانتظار البرابرة في قصيدة كافافي Kafafi...

No comments:

Post a Comment