Saturday 22 May 2010

تزوج موريتانية وأربح...

أعل الشيخ أحمد الطلبة

في المساء كعادتي كنت جالسا أمام شاشة الحاسوب منهمكا في تكميل فصل من أقسام أطروحتي للدكتوراه عندما رن هاتفي المحمول. كانت الرنة توحي بالتوصل برسالة قصيرة. كعادتي لم أنتبه لها لأني تعودت عل الرسائل الإشهارية التي تصل دائما من طرف شركات الاتصالات، خصوصا أني لم أكن في أرض الوطن، حيث أعتدت مع قلائل من الأصدقاء تبادل الرسائل القصيرة كوسيلة متحضرة للتواصل بدل لغو الكلام الذي أصبح السمة الرسمية للهاتف المحمول هناك.
الرسالة القصيرة كانت من صديق في موريتانيا وتحمل معها رذاذ من رائحة الأحبة. رغم قصرها تحمل من المعاني مالا يمكن لمقال أن يحتويه أو يعالجه. مع ذلك، فحسبي أن أحاول في هذه الأسطر القليلة وضع هذه الرسالة القصيرة جدا في سياقها الاجتماعي والثقافي، أعني بالثقافة هنا تلك التراكمات و السمات المميزة لمجتمع البيظان و التي تساهم في بناء الوعي الجمعي والذاكرة الجماعية و الإطار العام للتفكير والتصور، أي أني أحاول فهمها في سياق الثقافة الشعبية. طبعا الثقافة الشعبية لا تعني الثورة عل الثقافة النخبوية قلبا وقالبا، بل هي محاولة لجسر الهوة بين ما هو شعبي و ما هو نخبوي. بعبارة الأخرى، هي التفكير في العامية بأسلوب نخبوي. كانت الرسالة كالتالي:


"تزوج موريتانية وأربح: هم وغم وثقل دم وكلام سم... وآخرها ضغط وسكر و فقر دم."

من أجل فهم هذا التصور أو الصورة النمطية عن المرأة في موريتانيا، لا بد باقتضاب من مقارنة المرأة الموريتانية مع النساء الأخريات من بعض الدول المجاورة. لإجراء هذه المقارنة قد ألجؤ إلي التعميم وذالك لأني لا أتوفر على دراية معمقة حول جميع الدول ووضعية النساء فيها، مع أني أعرف الكثير عن النساء في دول المغرب العربي بحكم التجربة والعيش في بعض هذه الدول. فمثلا المرأة في المغرب أضحت انهزامية لدرجة التخلي عن كرامتها مقابل استمرار عقد الزواج، بينما المرأة في تونس لا تبحث أصلا عن الزواج لأنها تعلمت أن تكون رجلا في ثياب امرأة تحت ظروف ضغط التقدم والمدنية والثقافة الصناعية، أما في الجزائر فالمرأة أصبحت في أغلب الأحوال الآمر والناهي و تحول الرجل إلي معيل في ظل انعدام وشائج الحب والاحترام والسكينة التي هي الهدف الأساس من الزواج.

من جهة أخرى، فالمرأة الإفريقية كانت، أو أصبحت، سلعة يحق للرجل أن يمتلكها بعقد يطلق عليه الزواج يخول للرجل تربية أربع نساء مدجنات في منزل واحد وتحت سقف واحد. ففي السنغال مثلا يزيد احترام الرجل بعدد زيجاته، تماما كما تزيد قيمة المرأة عندنا بعدد طلقاتها. فالمطلقة مرغوبة في مجتمعنا أكثر من البكر و هي الظاهرة التي تحير كل من حاول مقارنة المرأة الموريتانية بنظيراتها. أيضا لابد من الإشارة إلي أن المسؤول الأول والأخير عن التناقضات والتقابلات لوضعية المرأة الاجتماعية في موريتانيا هو الرجل.

الرجل في مجتمعنا بالغ في احترام المرأة إلي حد التهميش و حملها من المسؤولية أكثر مما أصبح بإمكانه أن يفهم أو يستوعب فحكم عليها أن تعيش في فضاء شاسع بين الرغبة والغموض. المرأة الموريتانية لازالت تعتبر الرجل المسؤول عن توفير الرفاه و البذخ و السخاء و الكد. هذه الصورة التقليدية للرجل ظلت عالقة في أذهان النساء منذ عصر البداوة و الترحال حيث كان العمل كله شاق ويحتاج لعضلات الرجل من سقاية و نصب للخيام و ذبح وعقر و رعي ... كل هذا سمح للمرأة أن تتفرغ للثرثرة و بناء الشائعات.

لم تستطع المرأة الموريتانية بعد أن تكيف نفسها مع إكراهات ومتطلبات المدينة الحديثة. لاشيء في المدينة يحتاج لجهد الرجل بل إن المدينة فضاء مناسب لتميز المرأة أكثر من الرجل و هذا ما تثبته بعض الإحصائيات في الدول العربية و هو ما وفر للمرأة أيضا عندنا في موريتانيا تقلد المناصب بل وتخصيص حصة ثابتة لها.

طبعا لا أريد التعميم في خطابي أو قراءتي لرسالة صديقي، ولكن حسبي فقط أن أثير بعض التساؤلات حول الأسباب والدوافع الموضوعية والفعلية التي أدت إلي انعدام التواصل بين الرجل والمرأة و الأسس الاجتماعية التي بنيت عليها هذه الأحكام الجزافية والسطحية حول المرأة والرجل في علاقتهما داخل مجتمع تقليدي كمجتمعنا: هل لأن التغير في نمط العيش جاء بعلاقة جديدة ذات طبيعة خاصة ؟ أم أن الرجل ظل ينظر إلي المرأة "كقطعة أثاث" و ظلت هي تحاول أن تبرهن على "إنسانيتها"؟ هل من الطبيعي أن لا تتغير عقلية المرأة و يتغير الرجل كذلك في عالم يتسم بالتغير؟

أنا على يقين أن صديقي عندما كتب هذه الرسالة كان في تلك اللحظة يتقمص شخصية الرجل التقليدي البيظاني الذي تعود أن يطلق زوجته هروبا من الواقع. الواقع الذي لن يتغير ولو تزوج ألف مرة وطلق ألف مرة لأن كل شخص له مشاكل و أحلام و طموحات و تصورات سواء كان هذا الشخص امرأة أم رجلا. الرجل يطلق بحجة أن المرأة تطلب أكثر مما تستحق أو لأنها طموحة أكثر من اللازم أو لمجرد أنها تفكر و تفهم بنفس الطريقة التي يفكر فيها هو. حينئذ يطلقها هروبا منها أو من ذاته في رحلة بحث عن أخرى يكفيها أن تتزوج لتدخل عالم الرغبة. رحلة الرجل هذه السيزيفية أو العبثية هي ما جعل من الطلاق سلعة رائجة في "سوق النخاسة" الاجتماعية الذي نطلق عليه مجازا " الزواج".

لا أريد تحميل كل المسؤولية للرجل و تبرئة المرأة بقدر ما أطمح إلي تجريد ذاتي من التمسك بالنظرة الذكورية المتعالية للرجل و في نفس الوقت هدم البناء المتخيل لنسائية المرأة المتغطرسة - feminism-.

من بين الروافد الاجتماعية المتعددة التي ساهمت في ترسيخ هذا التصور عن المرأة و الرجل في مجتمع البيظان تلك العلاقة الشائكة التي ظلت تربط البنت بالأم؛ البنت، التي هي امرأة بالطبيعة، تظل نتاج إن لم نقل صورة كربونية من الأم بغض النظر عن الظرفية الاجتماعية و السياسية والاقتصادية والفكرية التي اكتنفت ولادة ونشأة البنت التي من المفروض أن تكتسب هوية وشخصية خاصة بها في ظل كل هذه المتغيرات. غير أنها ظلت سجينة لأفكار و قوالب وحيل الأم التقليدية التي يسكن شبحها جسم وكيان البنت. فهل من المعقول أن تعيش المرأة في عالم اليوم بعقلية القرن الماضي؟ الإنسان ابن بيئته. هذه الأطروحة يفندها الواقع المعيش في مجتمعنا حيث الرجل يركب أفخم السيارات بعقلية راكب الجمل.

إذن، فالضحية هنا هي المرأة و الرجل على حد سواء. فالزواج في ظروف كهذه يتحول من رباط مقدس يسعى للمحافظة على استمرارية وتماسك المجتمع إلي حرب بالوكالة تتحمل فيها الأم واجب تزويد بنتها بالأسلحة بينما يتخلى أهل الرجل عنه و توجيه اللوم له لأنه تغير. هذه الحرب الشرسة مع أشباح من التقاليد والعادات البائدة ظلت تتحكم في المنظومة الاجتماعية و تترك بصماتها على الحياة اليومية في شكل سحابة من الهم والغم يعاني منها الرجل فيتخلص منها إما بالعزوف عن الزواج أو بالطلاق، وتسعى المرأة لتجاوزها بلبس قناع مزيف من البساطة المعقدة والزواج من أي رجل كان.

إن تقويم وتصحيح الوضع الاجتماعي ضروري لبناء و تحديث أي مجتمع لاسيما إذا كان في نقطة تحول ومنعرج سياسي و ثقافي انزلاقي. ذلك أن مجرد التفكير في الأشياء البسيطة في الحياة هو ما يجعلها مهمة و تستحق التضحية، فالعلاقة بين المرأة والرجل في مجتمع البيظان مرت بمراحل من التبسيط الذي تحول إلي عبثية اجتماعية يعاني منها المجتمع ككيان واحد و تؤثر على بعض أفراد المجتمع الساعين إلي العيش بنظام وسعادة ومودة وسكينة في إطار اجتماعي سليم.
كذلك عندما قرأت رسالة صديقي انتابني ذلك الشعور بالتساؤل الذي يحاول مساءلة السؤال نفسه و تحويل الجواب إلي سؤال، لأن الأجوبة قد تتعدد حسب الفهم والتأويل لكن السؤال يظل طرحه من أجل التفكير و التمحيص وبالتالي التغيير. فالتساؤل عن أهمية التقاليد و العادات و ضرورة فهمها هو سؤال عن إكراهات المرحلة. و التساؤل عن طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل في مجتمعنا التقليدي هو، قبل كل شيء، محاولة لتفكيك الصور النمطية- stéréotype- و نزع للأقنعة المزيفة لتظهر الأشياء كما هي. فالأشياء تصبح أكثر تعقيد كلما فكرنا فيها وتصبح أكثر بساطة عند نفهمها.

No comments:

Post a Comment